فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْحَجِّ:

الْكِتَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: فَصْلٌ فِي الْحَجِّ، وَفَصْلٌ فِي الْعُمْرَةِ، أَمَّا فَصْلُ الْحَجِّ:
فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ أَرْكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ عُمْرِهِ أَصْلًا، وَرَأْسًا.

.بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ:

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا}، فِي الْآيَةِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»، وَعَلَى: كَلِمَةُ إيجَابٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ} قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: وَمَنْ كَفَرَ بِوُجُوبِ الْحَجِّ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا، وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا وقَوْله تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» أَيْ: اُدْعُ النَّاسَ وَنَادِهِمْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: أَيْ أَعْلِمْ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا».
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ».
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ عَدُوٌّ ظَاهِرٌ، فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا».
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا».
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، أَوْ لِحَقِّ شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ فِي الْمَعْقُولِ وَفِي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ، أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَلِأَنَّ إظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ إظْهَارُ التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ، وَفِي الْحَجِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ، وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ، وَالِارْتِفَاقِ، وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ، وَمَرْحَمَتِهِ إيَّاهُ، وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ، وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إلَى رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ.
وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ؛ فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ، وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْبَدَنِ، وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ، فَكَانَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ إلَّا اسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: كَيْفِيَّةُ فَرْضِ الْحَجِّ:

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِهِ فَمِنْهَا: أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ عَيْنًا لَا يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَعْضِ عَنْ الْبَاقِينَ بِخِلَافِ الْجِهَادِ فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ عَيْنًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ إلَّا بِأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ إلَّا إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ، كَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحَجِّ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَالزَّكَاةَ، وَالصَّوْمَ يَجِبَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ لِمَا عُرِفَ فِي (أُصُولِ الْفِقْهِ)، وَالتَّكْرَارُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ لَا بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ سَأَلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لِلْأَبَدِ»، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَلَوْ، وَجَبَ فِي كُلِّ عَامٍ؛ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهُ إلَّا بِحَرَجٍ لَا يُؤَدَّى فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ، وَالْعِقَابُ إلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَقَالَ: أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ فِي كُلِّ عَامٍ لَوَجَبَ، وَلَوْ وَجَبَ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ».
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَالتَّرَاخِي، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهِيَ السَّنَةُ الْأُولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ أَبُو سَهْلٍ الزَّجَّاجِيُّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ فِي وَقْتٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ ثُمَّ بَيَّنَ، وَقْتَ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ (عَزَّ وَجَلَّ): {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أَيْ: وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَصَارَ الْمَفْرُوضُ هُوَ الْحَجُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُطْلَقًا مِنْ الْعُمْرِ فَتَقْيِيدُهُ بِالْفَوْرِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ لِسَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةِ الْعَشْرِ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا احْتَمَلَ التَّأْخِيرَ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، وَلَوْ كَانَ، وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ.
وَقَدْ فَاتَ الْفَوْرُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا كَمَا لَوْ فَاتَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عَنْ وَقْتِهَا، وَصَوْمُ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَيْهِ يَأْتِي بِالْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا خَوْفًا مِنْ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَأَمِنَ الضَّرَرَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي لَا يَضُرُّهُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ يَنْفَعُهُ؛ لِمُسَارَعَتِهِ إلَى الْخَيْرِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى التَّرَاخِي رُبَّمَا لَا يَأْتِي بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَتَلْحَقُهُ الْمَضَرَّةُ إنَّ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ حَمْلًا عَلَى أَحْوَطِ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْفَوْرُ أَوْ التَّرَاخِي بَلْ يُعْتَقَدُ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَوْرِ، وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا، وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَلَكَ كَذَا فَلَمْ يَحُجَّ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ أَيْ لَمْ يَحُجَّ عَقِيبَ مِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ بِلَا فَصْلٍ، وَأَمَّا طَرِيقُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ لِلْحَجِّ وَقْتًا مُعَيَّنًا مِنْ السَّنَةِ يَفُوتُ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ بِفَوَاتِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى.
وَقَدْ يَعِيشُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَقَدْ لَا يَعِيشُ فَكَانَ التَّأْخِيرُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى تَفْوِيتًا لَهُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ لِلْحَالِ إلَى أَنْ يَجِيءَ، وَقْتُ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي إدْرَاكِهِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ شَكٌّ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْفَوَاتُ الثَّابِتُ لِلْحَالِ بِالشَّكِّ، وَالتَّفْوِيتُ حَرَامٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْوَقْتِ ثَبَتَ مُطْلَقًا عَنْ الْفَوْرِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا، وَيَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ لَهُ، وَلَا كَلَامَ فِي حَالِ الْعُذْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا لِعُذْرٍ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّأْخِيرِ هُوَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِهِ ذَلِكَ فَوَاتٌ لِعِلْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُ يَحُجُّ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ}.
وَالثُّنْيَا لِلتَّيَمُّنِ، وَالتَّبَرُّكِ أَوْ لِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْجَمَاعَةَ.
وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ عَمَلًا فِي احْتِمَالِ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْإِمْكَانِ لَا فِي إخْرَاجِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ، وَقْتًا لِلْوَاجِبِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّعْجِيلِ إنَّمَا كَانَ تَحَرُّزًا عَنْ الْفَوَاتِ فَإِذَا عَاشَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَالَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ فِي وَقْتِهِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ فَرْضِيَّتِهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ وَنَوْعٌ يَخُصُّ النِّسَاءَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ فَمِنْهَا: الْبُلُوغُ، وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا حَجَّ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا الْحَجُّ حَتَّى لَوْ حَجَّا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَعَلَيْهِمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَمَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَكُونُ تَطَوُّعًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ».
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا حَجَّ فِي حَالِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ، وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا هَاجَرَ» يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حَجَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ.
وَكَذَا لَا حَجَّ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ بِالتَّرْكِ وَعِنْد الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ حَتَّى يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ فِي الْآخِرَةِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارِ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ: عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا}؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}، وَبِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَشْمَلُ الْحَجَّ، وَغَيْرَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا، وَالتَّبَعِ مَتْبُوعًا، وَأَنَّهُ قَلَبَ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي (كِتَابِ الزَّكَاةِ) وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ جَائِزٌ.
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا أُعْتِقَ»، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا}، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ مِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْحَجِّ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا حَجَّ فِي حَالِ الرِّقِّ تَطَوُّعًا، وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِذْنِ، وَعَدَمِ الْإِذْنِ، فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ إذَا حَجَّ بِالسُّؤَالِ مِنْ النَّاسِ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَيْسَرَ لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ بِمِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَمَنَافِعِ الْبَدَنِ شَرْطُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ، وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً، وَالْفَقِيرُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إذْ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ وَإِنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ، فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِذَا بَلَغَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بَدَنِهِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِالْمَشْيِ، وَقَلِيلِ زَادٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَإِذَا أَدَّى وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَنَافِعُ بَدَنِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً مَا دَامَ عَبْدًا فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْفَقِيرَ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ كَامِلٍ كَسَائِرِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ ابْتِدَاءً، وَالْعَبْدُ إذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ لَا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمِ الْحُرِّ بَلْ يُرْضَخُ لَهُ، وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا شَهِدَ الْجُمُعَةَ، وَصَلَّى أَنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ نَظَرًا لِلْمَوْلَى إلَّا قَدْرَ مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّهُ مُبْقًى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِمَنَافِعِ الْبَدَنِ فِي سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَيَكُونُ فِيهِ نَفْعُ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى، فَإِذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ، وَفَاتَتْ الْمَنَافِعُ بِسَبَبِ السَّعْيِ فَيُعَدُّ ذَلِكَ الظُّهْرُ، وَالْجُمُعَةُ سَوَاءٌ، فَنَظَرُ الْمَالِكِ فِي جَوَازِ الْجُمُعَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الظُّهْرِ ثَانِيًا فَيَزِيدُ الضَّرَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَالْجِهَادِ فَإِنَّهُمَا لَا يُؤَدَّيَانِ إلَّا بِالْمَالِ، وَالنَّفْسِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى بِفَوَاتِ مَالِهِ، وَتَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنْ مَنَافِعِ الْعَبْدِ فَلَمْ يُجْعَلْ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ عَنْ الْفَرْضِ إذَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ يَتَبَادَرُ الْعَبِيدُ إلَى الْأَدَاءِ لِكَوْنِ الْحَجِّ عِبَادَةً مَرْغُوبَةً.
وَكَذَا الْجِهَادُ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى، فَالشَّرْعُ حَجَرَ عَلَيْهِمْ، وَسَدَّ هَذَا الْبَابَ نَظَرًا بِالْمَوْلَى حَتَّى لَا يَجِبَ إلَّا بِمِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَمِلْكِ مَنَافِعِ الْبَدَنِ.
وَلَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ مَضَى عَلَى إحْرَامِهِ، يَكُونُ حَجُّهُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ بَالِغٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ لَبَّى أَوْ نَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَطَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ.
وَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ، وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَجَدَّدَ الْإِحْرَامَ، وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْكَافِرِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ إحْرَامَ الْكَافِرِ، وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، وَإِحْرَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَقَعَ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُخَاطَبٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلِانْتِقَاضِ فَإِذَا جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ انْتَقَضَ فَأَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ وَقَعَ لَازِمًا لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلْخِطَابِ فَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ تَطَوُّعًا فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ الثَّانِي إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ.
وَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَرِيضِ وَالزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَفْلُوجِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِنَفْسِهِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَالْمَمْنُوعِ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا اسْتِطَاعَةُ التَّكْلِيفِ، وَهِيَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ سَلَامَةُ الْبَدَنِ عَنْ الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا لابد مِنْهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فلابد مِنْ سَلَامَةِ الْبَدَنِ، وَلَا سَلَامَةَ مَعَ الْمَانِعِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} أَنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ، وَيَكُونَ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ، وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْجَبَ، وَلِأَنَّ الْقُرَبَ، وَالْعِبَادَاتِ، وَجَبَتْ بِحَقِّ الشُّكْرِ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَإِذَا مُنِعَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَنِ أَوْ الْمَالِ كَيْفَ يُكَلَّفُ بِالشُّكْرِ، وَلَا نِعْمَةَ.
وَأَمَّا الْأَعْمَى فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا حَجَّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ وَجَدَ زَادًا، وَرَاحِلَةً، وَقَائِدًا، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَعْمَى، وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إذَا وَجَدَ زَادًا، وَرَاحِلَةً، وَمَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ فِي خِدْمَتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَقْطُوعِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: هِيَ الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ» فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلِلْأَعْمَى هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلِأَنَّ الْأَعْمَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ، وَيَهْتَدِي بِالْقَائِدِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فِي الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ: أَنَّهُمَا يَقْدِرَانِ بِغَيْرِهِمَا إنْ كَانَا لَا يَقْدِرَانِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَالْقُدْرَةُ بِالْغَيْرِ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ كَالْقُدْرَةِ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ.
وَكَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِطَاعَةَ: بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَقَدْ وُجِدَا، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَا لابد مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ مِنْ الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَا الزَّمِنُ، وَالْمُقْعَدُ فَلَمْ يَكُونَا قَادِرَيْنِ عَلَى الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ، وَالْقَادِرُ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُخْتَارِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَمْ تَثْبُتْ الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ غَيْرُهُ يُمْسِكُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْحَجِّ لَا لِاقْتِصَارِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِمَا.
(أَلَا تَرَى): أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَكَّةَ بَحْرٌ زَاخِرٌ لَا سَفِينَةَ ثَمَّةَ، أَوْ عَدُوٌّ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَعَ وُجُودِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لَيْسَ لِاقْتِصَارِ الشَّرْطِ عَلَيْهِمَا بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ يَدْخُلُ تَحْتَ تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْحَجِّ عَلَى الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَفْلُوجِ، وَالْمَرِيضِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِأَنْفُسِهِمْ حَرَجًا بَيِّنًا، وَمَشَقَّةً شَدِيدَةً.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ): {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَمِنْهَا مِلْكُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فِي حَقِّ النَّائِي عَنْ مَكَّةَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَالثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ شَرْطٌ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَهُ مِنَّةٌ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْأَبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إذَا كَانَتْ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، كَالْوَالِدِ بَذَلَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ لِابْنِهِ، وَلَهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ قَوْلَانِ، وَلَوْ، وَهَبَهُ إنْسَانٌ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْقَبُولُ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الرَّاحِلَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَصْلًا لَا مِلْكًا وَلَا إبَاحَةً، وَمِلْكُ الزَّادِ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَاحِلَةٌ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَهُوَ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا}، وَمَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ، وَلَهُ زَادٌ، فَقَدْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ.
(وَلَنَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ: بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا فَلَا تَثْبُتُ الِاسْتِطَاعَةُ بِأَحَدِهِمَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لَا تَكْفِي لِاسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ ثُمَّ شَرْطُ الرَّاحِلَةِ إنَّمَا يُرَاعَى لِوُجُوبِ الْحَجِّ فِي حَقِّ مَنْ نَأَى عَنْ مَكَّةَ فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ حَوْلَهُمْ فَإِنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْقَوِيِّ مِنْهُمْ الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ رَاحِلَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ يَلْحَقُهُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْحَجِّ كَمَا لَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْجُمُعَةِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ الْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ، وَالْقُدْرَةُ تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ إذْ الْمِلْكُ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ أَكْلًا، وَرُكُوبًا، وَلِذَا ثَبَتَتْ بِالْإِبَاحَةِ، وَلِهَذَا اسْتَوَى الْمِلْكُ، وَالْإِبَاحَةُ فِي (بَابِ الطَّهَارَةِ) فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ التَّيَمُّمِ كَذَا هَاهُنَا.
(وَلَنَا) أَنَّ اسْتِطَاعَةَ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً.
أَلَا تَرَى: أَنَّ لِلْمُبِيحِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُبَاحَ لَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُبَاحِ، وَمَعَ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنْعِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَلَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، وَالْعَدَمُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْبَذْلِ، وَالْإِبَاحَةِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ مِقْدَارَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا، وَجَائِيًا رَاكِبًا لَا مَاشِيًا بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لَا إسْرَافَ فِيهَا، وَلَا تَقْتِيرَ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ، وَخَادِمِهِ، وَفَرَسِهِ، وَسِلَاحِهِ، وَثِيَابِهِ، وَأَثَاثِهِ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَخَدَمِهِ، وَكُسْوَتِهِمْ، وَقَضَاءِ دُيُونِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: وَنَفَقَةُ شَهْرٍ بَعْدَ انْصِرَافِهِ أَيْضًا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَسَّرَ الرَّاحِلَةَ فَقَالَ: إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَفْضُلُ عَمَّا ذَكَرْنَا مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ، أَوْ زَامِلَةً، أَوْ رَأْسَ رَاحِلَةٍ، وَيُنْفِقُ ذَاهِبًا، وَجَائِيًا، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَمْشِيَ أَوْ يَكْتَرِيَ عُقْبَةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَاشِيًا، وَلَا رَاكِبًا عُقْبَةً، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْفَضْلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَوَائِجِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لابد مِنْهَا فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِهَا مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْعِيَالِ سَنَةً، وَالْبَعْضُ شَهْرًا، فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ هُوَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فِي الْقُرْبِ، وَالْبُعْدِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ قَدْرُ مَا يَذْهَبُ، وَيَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا لَمْ يَكْفِ مَالُهُ إلَّا لِلْعُقْبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا، وَالرَّاكِبُ عُقْبَةً لَا يَرْكَبُ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ بَلْ يَرْكَبُ فِي الْبَعْضِ، وَيَمْشِي فِي الْبَعْضِ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا، وَلَا يُؤَاجِرُهَا، وَمَتَاعٌ لَا يَمْتَهِنُهُ، وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَحُجَّ بِهِ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ مُسْتَطِيعًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَإِنْ أَمْكَنَهُ بَيْعُ مَنْزِلِهِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَنْزِلًا دُونَهُ، وَيَحُجَّ بِالْفَضْلِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى سُكْنَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْحَاجَةِ قَدْرُ مَا لابد مِنْهُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْمَنْزِلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى السُّكْنَى، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ، وَلَا خَادِمٌ، وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ، وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ تُبَلِّغُهُ إلَى الْحَجِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يُعْذَرُ فِي التَّرْكِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ شِرَاءِ الْمَسْكَنِ، وَالْخَادِمِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَسْكَنِ، وَالْخَادِمِ، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِبَيْعِهِمَا، وَقَوْلُهُ: وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ: وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الذَّهَابِ، وَالرُّجُوعِ.
فَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الذَّهَابِ إلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ فَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا.
(وَمِنْهَا) أَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ إذَا خَافَ الْفَوْتَ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ يَقُولُ إنَّهُ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إذَا خَافَ الْفَوْتَ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ يَقُولُ: لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الْوُجُوبِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا لَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ لِيُسْتَدَلَّ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ لَمْ يَذْكُرْ صِحَّةَ الْجَوَارِحِ، وَزَوَالَ سَائِرِ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا زَادَ لَهُ، وَلَا رَاحِلَةَ مَعَهُ فَكَانَ شَرْطُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ شَرْطًا لِأَمْنِ الطَّرِيقِ ضَرُورَةً.
(وَأَمَّا).
الَّذِي يَخُصُّ النِّسَاءَ فَشَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ لَهَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ.
وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَلْزَمُهَا الْحَجُّ، وَالْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَلَا مَحْرَمٍ إذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ فِي الرُّفْقَةِ ثِقَاتٌ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا}.
وَخِطَابُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ، وَالْإِنَاثَ بِلَا خِلَافٍ فَإِذَا كَانَ لَهَا زَادٌ، وَرَاحِلَةٌ كَانَتْ مُسْتَطِيعَةً، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ يُؤْمَنُ الْفَسَادُ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُهَا فَرْضُ الْحَجِّ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَلَا «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ»، وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ» وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ، وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إذْ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ وَحْدَهَا.
وَالْخَوْفُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِنَّ أَكْثَرُ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى، وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِ، وَالْمَحْرَمِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ بِنَفْسِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا، وَيُنْزِلُهَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، وَالْمَحْرَمِ فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَطِيعَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ فَإِنْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ عَنْ الْخُرُوجِ لَا يُجْبَرَانِ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ لِإِرَادَةِ زَادٍ، وَرَاحِلَةٍ هَلْ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ بِنَفْسِهَا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَحْرَمَ أَوْ الزَّوْجَ مِنْ ضَرُورَاتِ حَجِّهَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إذْ لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلَا يُمْكِنُ إلْزَامُ ذَلِكَ الزَّوْجِ أَوْ الْمَحْرَمِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهَا الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ لِنَفْسِهَا، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ شَرْطِ الْوُجُوبِ بَلْ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا.
أَلَا تَرَى: أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَلْزَمُهُ تَحْصِيلُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا مَحْرَمَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمَنْ يَحُجُّ بِهَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ الْمَحْرَمِ فِي الْحَجَّةِ الْفَرِيضَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا وَهُوَ: الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَلَا تَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ.
(وَلَنَا): أَنَّهَا إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَقَدْ اسْتَطَاعَتْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ سَبِيلًا؛ لِأَنَّهَا قَدَرَتْ عَلَى الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ وَأَمِنَتْ الْمَخَاوِفَ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يَصُونُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ يَفُوتُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ، فَنَقُولُ: مَنَافِعُهَا مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ فِي الْفَرَائِضِ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى حَجَّةِ التَّطَوُّعِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا كَمَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ إلَّا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّابَّةِ، وَالْعَجُوزِ.
وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَاجَةِ الْمَرْأَةِ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا، وَيُنْزِلُهَا بَلْ حَاجَةُ الْعَجُوزِ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ؛ لِأَنَّهَا أَعْجَزُ.
وَكَذَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ.
وَكَذَا لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ حَالَ رُكُوبِهَا، وَنُزُولِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَى الْمَحْرَمِ لِيَصُونَهَا عَنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ صِفَةُ الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ إمَّا بِالْقَرَابَةِ، أَوْ الرَّضَاعِ، أَوْ الصِّهْرِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ تُزِيلُ التُّهْمَةَ فِي الْخَلْوَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْمَحْرَمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرَمُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي الْمَحْرَمِيَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُشْرِكًا؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ، وَالْمُشْرِكَ يَحْفَظَانِ مَحَارِمَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ نِكَاحِهَا فَلَا تُسَافِرُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَقَالُوا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ، وَالْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ: إنَّهُمَا لَيْسَا بِمَحْرَمَيْنِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمَا حِفْظُهَا، وَقَالُوا فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا: إنَّهَا تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا فَإِذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ لَا تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ثُمَّ الْمَحْرَمُ أَوْ الزَّوْجُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ حَجَّتْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يُشْتَرَطُ لِلسَّفَرِ، وَمَا دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ بِسَفَرٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَحِلَةٍ إلَى مَحِلَةٍ، ثُمَّ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَمْ شَرْطُ الْجَوَازِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُعْتَدَّاتِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّهُنَّ مِنْ الْجُحْفَةِ.
وَلِأَنَّ الْحَجَّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا إنَّمَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ خَاصَّةً فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى، وَإِنْ لَزِمَتْهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ إلَى السَّفَرِ، وَهِيَ مُسَافِرَةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَا يُفَارِقُهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الزَّوْجِيَّةَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا، أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ، فَإِنْ كَانَ إلَى مَنْزِلِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ، وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي بَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ إلَى مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ، وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الْمَحْرَمِ فِي أَقَلِّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إلَى مَنْزِلِهَا فَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا، وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُلَ مَوْضِعَ الْأَمْنِ ثُمَّ لَا تَخْرُجُ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أَوْ لَا، وَعِنْدَهُمَا: تَخْرُجُ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ (كِتَابِ الطَّلَاقِ) وَنَذْكُرُهَا بِدَلَائِلِهَا فِي فُصُولِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ كَالْمَرِيضِ، وَنَحْوِهِ، وَلَهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا عَنْهُ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ شَرَائِطَ جَوَازِ الْإِحْجَاجِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَوْ تَكَلَّفَ وَاحِدٌ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ فَحَجَّ بِنَفْسِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِحَرَجٍ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الْحَرَجَ، وَقَعَ مَوْقِعَهُ كَالْفَقِيرِ إذَا حَجَّ، وَالْعَبْدِ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ فَأَدَّاهَا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ صَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ الْعَبْدَ، وَالصَّبِيَّ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ، وُجُودُهَا، وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُ بَلَدِهِ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِ ذَلِكَ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ قَبْلَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْلَهُ، وَمَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَإِذَا صَرَفَ مَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَأَمَّا إذَا جَاءَ، وَقْتُ الْخُرُوجِ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ فَيَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لِلطَّهَارَةِ.
وَقَدْ قَرُبَ الْوَقْتُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِهْلَاكُهُ فِي غَيْرِ الطَّهَارَةِ، فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى غَيْرِ الْحَجِّ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.